غدرت بأهلها لأجل عيون عشيقها
في كتب التراث العربية هناك حكاية عن النظيرة، وهي أميرة حسناء غدرت بأبيها الملك وخانت شعبها حينما دلت الأعداء على نقطة الضعف في الأسوار المنيعة التي تحمي مملكة أبيها، فعلت ذلك بعد أن وعدها ملك الأعداء الذي كانت تعشقه بالزواج، ونتيجة لهذه المؤامرة الدنيئة تمكن العدو من دخول المدينة ووضع السيف في أعناق الجميع بضمنهم والد النظيرة، ويقال بأن ملك الأعداء سأل النظيرة بعد أن استولى على المدينة عن معاملة أبيها لها، فأخبرته بأنه كان يحبها ويدللها ويفضلها على جميع أخوتها وأخواتها، فتعجب الملك من ذلك وقال لها : إذا كنتِ قد غدرت بأبيكِ رغم كل ذلك الحب والدلال فكيف لي أن أثق بك وما أدراني بأنكِ لن تغدري بي أنا أيضا وتسلميني للأعداء في المستقبل؟. وفي الحال أمر حراسه بربط النظيرة إلى فرسين جعلوهما يركضان في اتجاهين متعاكسين حتى تمزق جسدها إلى نصفين.
"خيانة" الفتاة لعائلها ليست أمرا نادرا ولا جديدا، فزواج البنت من دون رضا أهلها أو فرارها مع عشيقها يعد من أبشع أنواع الخيانات بالنسبة للعديد من العائلات، خصوصا في مجتمعاتنا الشرقية التي تقيد حرية النساء وتحد من خياراتهن في مسألة اختيار شريك الحياة. لكن طبعا هذا كلام عام ولا يشمل الجميع، فهناك أيضا عائلات شرقية تحترم خيارات بناتها وتعضدها، وكل ذلك يعود بالدرجة الأساس إلى طبيعة العائلة .. ثقافتها ودرجة تعليمها. لكن العائلة لا تكون مخطئة وملامة دوما في معارضتها لخيارات ابنتها، فهناك بالفعل فتيات حمقاوات وناكرات للجميل على شاكلة الأميرة النظيرة، الواحدة منهن مستعدة لبيع أمها وأبيها في المزاد العلني من أجل إرضاء حبيبها. ولعل مدام دي برافيليه (Madame de Brinvilliers ) هي خير مثال على تلك الابنة الغادرة، فهذه المركيزة الفرنسية الحسناء أقدمت على ما هو أسوء بكثير من مجرد الخروج على طاعة العائلة، وكانت حكايتها من البشاعة بحيث تطرق لها الكاتب الفرنسي الكبير الكسندر دوماس في كتابه "جرائم مشهورة".
"الماركيزة . غدرت بأهلها لأجل عيون عشيقها 2"
غلاف كتاب يتناول حياة الماركيزة ..
ماري مادلين أوبري درو ولدت في باريس عام 1630، كان والدها ضابطا من الطبقة النبيلة أحسن تربية وتعليم أبناءه وبناته في زمان كان أكثر الناس فيه لا يجيدون القراءة والكتابة. لكن طفولة المركيزة لم تكن سعيدة تماما، إذ فقدت والدتها في سن الطفولة المبكرة، ويقال بأنها تعرضت للاغتصاب من قبل احد الخدم في سن السابعة من العمر، وتعرضت للاغتصاب مرة أخرى في سن العاشرة من قبل شقيقها المراهق.
ماري مادلين تزوجت عام 1651 من الماركيز دي برافيليه وأصبحت تعرف منذ ذلك الحين بأسم الماركيزة دي برافيليه. ولأن زوجها كان زير نساء ودائم الانشغال بلعب القمار لذا لم تتردد الماركيزة كثيرا في اتخاذ عشيق لنفسها، وقد وجدت ضالتها في ضابط الخيالة الشاب غودين دي سانت كروا الذي كان صديقا لزوجها. ولم تلبث أخبار العلاقة بين الاثنين أن انتشرت في أوساط المجتمع الباريسي المخملي العاشق للفضائح. وزاد اللغط حول علاقتهما بعد فرار زوج الماركيزة من فرنسا جراء تراكم الديون عليه بعد أن خسر ثروته كلها في لعب القمار. مما حدا بوالد المركيزة إلى التدخل واستخدام نفوذه للتخلص من عشيق ابنته عن طريق الزج به في سجن الباستيل الرهيب عام 1663.
وتشاء الأقدار أن يكون رفيق غودين في زنزانة السجن رجل ايطالي كان يعد من أشهر وأبرع المختصين بعلم السموم في ذلك العصر، وهو من العلوم الرائجة جدا في تلك الأيام، فالسموم كانت وسيلة سهلة ورخيصة وآمنة للتخلص من الأعداء والخصوم. وقد تعلم غودين أسرار هذا العلم من رفيق زنزانته بسرعة، وقام هو بدوره بتعليم عشيقته الماركيزة حال خروجه من السجن، وراح الاثنان يجربان وصفاتهما السمية على المرضى الذين كانت الماركيزة تزورهم في المستشفيات بدعوى الإحسان إليهم.
الماركيزة وعشيقها كانا في وضع مالي سيء جدا، فالضابط غودين كان مفصولا من الخدمة، والماركيزة غارقة في ديون زوجها وإعالة أطفالها السبعة الذين تقول الشائعات بأن أربعة منهم كانوا أطفال زنا. لهذا وضع العاشقان خطة شيطانية رهيبة للاستيلاء على أموال وأراضي والد المركيزة الثري، حيث قامت الماركيزة عام 1666 بدس السم لأبيها في شرابه، وكان السم الذي استعملته سما من النوع الذي لا يقتل في الحال، بل يسبب موتا بطيئا لضحاياه، وتكون إعراضه أشبه بأعراض الإمراض الباطنية التي تصيب المعدة. ومن سخرية الأقدار أن والد المركيزة طلب منها أن تعتني به خلال فترة مرضه، فظلت إلى جانبه ترعاه – وتحرص على موته - حتى فارق الحياة بعد عدة أشهر.
"الماركيزة . غدرت بأهلها لأجل عيون عشيقها 2"
الماركيزة في ساعاتها الأخيرة ..
لكن موت الأب لم يكن كافيا، فالماركيزة لم تكن الوريثة الوحيدة، كان لها شقيقان وأخت، لذا لم تتردد في دس السم لشقيقيها عام 1670 بفارق ستة أشهر بين الواحد والآخر. وقد أثار موت الشقيقان ذعر شقيقة الماركيزة الوحيدة التي بدأت ترتاب في شقيقتها بشدة، خصوصا وأن الماركيزة كانت ملازمة لوالدها وأخويها أثناء مرضهم وموتهم، لذا قررت هذه الشقيقة أن ترحل خلسة عن قصر والدها قبل أن تمتد لها يد الموت هي الأخرى، وخلال السنوات التالية ظلت تفر مذعورة من أي مكان تسمع بأن شقيقتها الماركيزة قد حلت فيه.
وتشاء عدالة السماء أن تنمو بذور الشك وعدم الثقة بين الماركيزة وعشيقها غودين، فكلاهما صار يخاف ويخشى غدر الآخر، كان غودين هو الأكثر تخوفا خصوصا بعد أن شاهد كيف قتلت الماركيزة والدها وشقيقيها بدم بادر، خاف أن تقتله هو الآخر لكي تطمس أي دليل أو شاهد على جريمتها. لذا ولكي يضمن بقاءه حيا فقد كتب اعترافا كاملا بالجرائم التي اقترفها هو والكونتيسة ووضع هذا الاعتراف داخل صندوق مقفل أودعه لدى احد أصدقاءه وأوصاه أن يسلمه إلى الشرطة في حال حدوث أي مكروه مفاجئ له. ثم أخذ يهدد الماركيزة بهذا الصندوق فلم تجرأ على المس به وصارت تحرص على حياته أكثر منه لئلا يموت ويقوم صاحبه بتسليم الصندوق فيفتضح أمرها.
"الماركيزة . غدرت بأهلها لأجل عيون عشيقها 2"
عذبت بأجبارها على شرب الماء ..
ولسوء حظ الكونتيسة فقد مات غودين بصورة عرضية عام 1672، فقام صديقه بتسليم الصندوق إلى الشرطة التي ما أن عرفت بمحتواه حتى أصدرت أمرا سريعا بالقبض على الماركيزة، لكنها كانت قد أحست بالخطر بعد موت غودين مباشرة ففرت إلى لندن قبل أن تطالها يد الشرطة، ثم فرت إلى ألمانيا واختبأت في احد الأديرة لفترة قبل أن يتم إلقاء القبض عليها وإعادتها إلى باريس.
نهاية الماركيزة كانت بشعة، فقد عذبت بطريقة مروعة لإجبارها على الاعتراف بجريمتها، أجبرت على شرب عدة جالونات من الماء، وهي طريقة تعذيب كانت رائجة في العصور الوسطى، حيث كان الشخص الخاضع للتعذيب يجبر على شرب الماء بالقوة حتى تمتلئ معدته وتكاد تنفجر، ثم كانوا يقومون بضربه على بطنه حتى يتقيأ جميع ما بجوفه من ماء، وتكرر العملية بهذه الصورة مرة تلو الأخرى. ولاحقا حكم على الماركيزة بالإعدام وجرى تنفيذ الحكم في ميدان عام، حيث قام الجلاد بقطع رأسها ثم أحرقت جثتها في النار.